كنت جالساً بحضرة أحد الأفاضل ، فدار النقاش حول مسألة صلاة الجماعة ،
فقال هو :
ليست واجبة ، واستدلّ بقصة الرجلين الذين حضرا صلاة النبي صلى الله عليه
وسلم ، ولم يُصليا ، بل جلسا في مؤخرة المسجد ، فلما فرغ رسول الله صلى
الله عليه وسلم من صلاته دعاهما فجيء بـهما ترتعد فرائصهما ، ثم سألهما
لِمَ لَمْ يُصليا ،
فقالا : صلينا في رحالنا . فما أنكر عليهما .
لا أعترض على ما استدلّ به فالحديث صحيح ، ولا إشكال ، غير أن الإشكال يرد في وضع الشيء في غير موضعه .
ولي على كلامه ملحوظات ، وهي تكثر في حال الاستدلال لدى غيره :أولاً : للاستدلال على مسألة لا بدّ من جمع أحاديث الباب ، حتى يكون الفهم سليماً ، والعمل بالسُّـنّة كاملاً .
ثانياً : يجب حمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه على بعض لا أن تُضرب السُّـنّة بعضها ببعض .
ثالثاً : يحتاج المُستَدِلّ وطالب العلم لكلمة إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل –
رحمه الله – حيث قال : إياك أن تكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .
أي لم يَقُل بـها أحد قبلك ، فلن تأتي بفهم جديد ، ولن تكون أكثر فهماً ، ولا أعمق علماً ، ولا أدقّ استدلالاً من السلف .
رابعاً : معرفة سبب ورود الحديث –
في أحيان كثيرة – يُجلّي صورة المسألة ، ويوضّح مغزى الاستدلال .
ولست هنا بصدد تقرير وجوب صلاة الجماعة من عدمها ، ولكني بصدد مسألة فهم الأحاديث فهماً صحيحاً .
أما
من حيث استدلاله فالحديث رواه الإمام أحمد وأهل السنن عدا ابن ماجه ،
ورواه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم ، من حديث يزيد بن الأسود العامري.
في رواية أحمد والترمذي والنسائي زيادة فائدة تُعين على فهم الحديث ، وهي أن تلك الصلاة كانت صلاة الفجر ، وكانت في مسجد الخيف .
وفي رواية ابن خزيمة : يعني مسجد منى .
وفي رواية ابن حبان :
قال يزيد بن الأسود العامري : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته
فصلّيتُ معه صلاة الصبح في مسجد الخيف من منى – فَذَكَرَ الحديث - .
وتقييد
تلك الصلاة في مسجد الخيف في منى لا يخفى على اللبيب فائدة هذا القيد ،
وهو أن منى ليست دار إقامة ، ولا محلّ سكن ، بالإضافة إلى أن مَنْ كان في
منى فقد أُعفيَ من حضور الجماعة في المساجد ، فالمسافر يقصر الصلاة ، ولم
يُعهد إلزام الحجاج حضور الجمعة أو الجماعة .
وآخر مغمور - لكنه يُحبُّ
الظهور - ظهر في قناة فضائية ، ثم تكلّم عن كثرة الأحاديث ، وأن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يأتيه الرجل ، فيسأله عن الدِّين فيُلخِّصه له في كلمات
معدودة ، تشتمل على أركان الإسلام ، دون الدخول في التفاصيل ، وأنه يجب
على دعاة الإسلام اتّباع هذا المنهج .
فأقول هذا كلام حقٍّ أُريد به باطل ، مما يُعلم من قرائن الحال لدى المتكلّم .
وقد أجاب العلماء منذ زمن بعيد عن هذا الإشكال الذي وُجِدَ لدى المتحدِّث .
ولذا قال الإمام البخاري – رحمه الله – في كتاب الإيمان :
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا
وسننا ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان .
وقد أورد الإمام البخاري –
رحمه الله –
في صحيحه قول وهب بن منبه – وقد سُئل - : أليس لا إله إلا الله مفتاح
الجنة ؟ قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان ، فإن جئت بمفتاح له
أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح لك .
ولو أردنا أن نأخذ بقول هذا المتكلِّم
، والاقتصار على ما ورد في حديث عن أبي هريرة – المتفق عليه - أن أعرابيا
جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل
إذا عملته دخلت الجنة قال : تعبد الله لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة
المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان . قال الأعرابي : والذي
نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ، ولا أنقص منه ، فلما ولى قال النبي
صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا .
لو اقتصرنا على ما في هذا الحديث لعطّلنا شريعة الله ،
فأين تحريم الزنا ؟ وأين تحريم الخمر ؟ وأين إقامة الحدود … إلى غيرها من شرائع الإسلام ومبانيه العظام ،
بل أين ذروة سنامه ؟ وأين الركن الخامس من أركانه ؟ وأين صمام أمان المجتمع الإسلامي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)؟.
إن
المتأمل لوصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن – وهي
في الصحيحين – يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على ثلاثة أركان من
أركان الإسلام ، ومعلوم جواب العلماء عن هذا الحديث وأما شابـهه من
الأحاديث .
ومثله وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فقد تعددت واختلفت ، وعلى سبيل المثال :
أوصى رجلاً فقال : لا تغضب ، فرد مراراً لا تغضب . كما عند البخاري .
وقال لآخر :
عليك بالجهاد ، فإنه رهبانية الإسلام . كما في مسند الإمام أحمد وغيره .
وقال لثالث : عليك بالصوم ، فإنه لا مثل له . وفي رواية قال : لا عِدْلَ له .
يستأذنه في الجهاد ، فقال : أحيٌّ والداك ؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد .كما في الصحيحين .
فهذا بحسب الأحوال والأشخاص ، و (
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)
ولما روى الإمام مسلم حديث عتبان بن مالك ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :
فإن الله قد حرم على النار من قال : لا اله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله .
أعقبه - رحمه الله - بقول الزهري : ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمور نرى أن
الأمر انتهى إليها ، فمن استطاع أن لا يغتر فلا يغتر .
وللعلماء كلام يطول حول هذا المبحث .
وفهم الأحاديث يجب أن يكون وفق فهم سلف الأمة ، لا وفق أفهام خلفية فلسفية المَورِد والمَصدَر ، وتَعُبُّ من ماء السفسطة الآسن .
ولذا قال الإمام الشافعي – رحمه الله – : آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية : فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده
من غير غلو ولا تقصير ، فلا يحمّل كلامه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان ، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال
والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله ،
بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، وهو
أصل كل خطأ في الفروع والأصول ، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد . والله
المستعان .
وقال – رحمه الله – : وطريق أهل السنة أن لا يعدلوا عن النص الصحيح ، ولا يعارضوه بمعقول ، ولا قول فلان .
فقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدّمٌ على قول كل أحد ، وعلى كلّ فهم ، ولو
كان قول مَنْ أُمِرنا أن نقتدي بـهم ، أعني أبا بكر وعمر ، وهما هما ،
ومِنْ خلفائه الراشدين .
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ . رواه الإمام أحمد وغيره .
وقوله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر . رواه أحمد والترمذي ، وهو حديث صحيح .
ولذا لما قال ابن عباس - رضي الله عنهما – تمتع النبي صلى الله عليه وسلم - أي في الحج - فقال عروة بن الزبير :
نـهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : ما يقول عُريّة ؟! قال :
يقول نـهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون . أقول
قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : نـهى أبو بكر وعمر . رواه الإمام
أحمد وغيره .
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس أنه لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
...............
بقلم فضيلة الشيخ / عبد الرحمن السحيم -حفظه الله-